مكانة الفكر في مجتمعنا- بين التحديات والتحولات نحو المستقبل
المؤلف: علي بن محمد الرباعي11.12.2025

في المجتمعات التي تُقدّر قيمة العقول النيّرة وتؤمن برسالة المفكرين - ويا للأسف ما أقلّها - تحتلّ الأفكار الخلاقة منزلةً رفيعةً تليق بها. قد تظهر بعض الرؤى في غير أوانها المناسب، أو تُعرض بصورة تثير الشكوك والريبة، ممّا يُفقدها التعاطف ويؤدي إلى رفضها. ومع ذلك، فإنّ وجود خلل أو ضعف في الفكرة، أو حتى كونها متقدمةً جدًا، لا يُبرّر أبدًا توجيه العداء للمفكرين أنفسهم.
لا شكّ أنّ للنخبة المثقفة دورًا حيويًا في تشكيل وعي الإنسان، ولكن الأمم، بحكم طبيعتها المتأصلة، وجغرافيتها الموروثة، وتاريخها العريق، لا تُسلّم قيادها للأفكار بسهولة ويسر. تمتلك الأمم رصيدًا هائلاً من التقاليد الراسخة، والعادات المتوارثة، والتجارب الثرية، والرموز المقدسة، ممّا يدفعها إلى التمسك بثوابتها التي تراها جوهر هويتها، ويجعلها حذرةً من التغييرات المفاجئة.
لقد عانت البيئة العربية نصيبًا وافرًا من الأفكار التي أعاقت تقدمها المنشود، سواءً كانت أفكارًا تقليدية بالية تكبّل العقول، أو اتهامات بالتخوين تُطلق جزافًا على كل من يخالف الرأي. لطالما أصابت السهام الطائشة كيان الفكر العربي، وأدمته، ممّا اضطرّ المفكرين إلى الانزواء والابتعاد عن الأنظار، وإيداع أفكارهم القيّمة لدى تلاميذهم ومريديهم الأمناء. فالنقمة في بعض الأحيان تستهدف الشخص نفسه، لا النص الذي يقدّمه.
ولأنّ بعض الخطابات الاحتكارية خشيت من صعود خطاب الوعي والتنوير، فقد سعت جاهدةً إلى قمعه وإخماده في مهده، ولم تتقبّل فكرة مشاركة منصات التواصل مع فئات المجتمع المتنوعة، ولم تسمح بالتعبير عن الرأي المخالف والمختلف، بل اعتبرت مشروعها الخاص بمثابة "وصاية" على المجتمع، وعدّت وعظها وإرشادها بمثابة "الفكر" المطلق. وبما أنّ منهجية الأدلجة والتدجين تحمل في طياتها انتحارًا للمجتمع، فقد اعتمدوا أسلوب خلط الأوراق، والارتقاء إلى لغة الوعيد والتهديد، والاستقواء بالعنف والسلطة.
ممّا لا شكّ فيه أنّ بلادنا شهدت خلال السنوات العشر الأخيرة اعتماد منظومة قانونية متكاملة، وتشريعات حازمة، أسهمت في حفظ وضبط السِّلم المجتمعي، واختفى بذلك الصراع بين الأدوار الذي كانت تمثله تيارات مختلفة، وتلعبه توجهات تغذيها جهات داخلية وخارجية. بفضل فطنة قيادتنا الرشيدة، تجاوزنا نزعات ونزاعات كان يمكن أن تُفتّت وحدتنا الوطنية، وتحيلنا إلى مجتمعات متناحرة، على غرار دول لم يبقَ لها من مسمّى "دولة" إلا الاسم.
وعلى الرغم من أنّ التحولات المتسارعة تفرض علينا ضرورة تجاوز الماضي بكل ما فيه، إلا أنّ البعض ما زال أسيرًا لمرحلة كانت مليئة بالضجيج والصخب، وشهدت حدّة في الطروحات والمواقف، وصلت إلى حد المنازلة اللفظية واليدوية على شاشات التلفزيون، وفي المساجد، والفعاليات المختلفة، وصفحات الملاحق. وليس من المبالغة أن نقول: "دعوها فإنها مُربكة".
لن أعود إلى الوراء لأرثي أو أتباكى أو أندب حظّنا؛ لأنّ التراجع إلى الخلف يُعدّ ردّة ثقافية، وتخلّفًا عن مسيرة الإصلاحات التي تشهدها بلادنا. ومع ذلك، فإنّ المنصف لا يُنكر ولا يتجاهل الدور الذي لعبته الأيديولوجيات والأهواء في الأحداث التي شهدناها، حيث طغى وتفاقم التنازع وتقاطع المصالح، وتجلّت مظاهره في حشد المتعاطفين والأتباع بلا حصر، وراء رافعي ألوية الصراعات، والخوض مع الخائضين.
إنّ أيّ طرح موضوعي يستند إلى مراجعة عقلانية، مستنيرة برؤيتنا الوطنية، سيُقرّ بأنّ تلك الحقبة قد استهلكت الكثير من الوقت والجهد والمشاعر، وأحدثت فجوات عميقة بين أبناء الوطن السعودي الواحد، وخلقت حالة من العداء، تهدف إلى إلغاء أطراف لصالح طرف آخر، لا لشيء إلا للتشفّي، وكسب ولاء المجتمع لصفّ من يرى نفسه الأجدر بتسيّد المشهد وإدارته، ولعب دور البطولة.
اليوم تتجلى أمامنا صورة الدولة الوطنية والمجتمع المدني بوضوح وجلاء، ممّا أتاح مساحة من الحرية غير مسبوقة، جديرة بأن نستثمرها لصالح الأجيال القادمة، وذلك من خلال تعزيز معاني الانتماء إلى وطن أخرجنا من الظلمات إلى النور، وجدّد فينا الأمل الذي كاد أن يضمحل ويتلاشى. لا شكّ أنّ الولاء لقيادة ارتضاها المواطنون والمواطنات وبايعوها، هو جزء لا يتجزأ من مشروع بناء حضارة الوطن، فالاستقرار والتعايش يُحييان الأفكار ولا يئدانها، بشرط ألا تتجاوز الحدود.
من حكمة الفكر أن نضع في الاعتبار التخصص، فلا نتدخل فيما هو من صميم اختصاص الدولة، فهناك جانب تشريعي تضطلع به سماحة المفتي، وهيئة كبار العلماء، والديوان الملكي، ومجلس الوزراء، ومجلس الشورى. وليس من المصلحة التعمق فيما ترجع مرجعيته إلى هذه الجهات الاعتبارية، إلا ما يمكن قبوله من خلال القنوات التفاعلية المتاحة.
من العدل أن نستفيد من أخطاء الماضي، ولكن من الفضل أن نسمو على جراح الماضي واعتلالاته، وأن نوظف ما يكفله النظام من حق التعبير عن الآراء في إرساء قِيَم المواطنة الصالحة، والخير، والتعايش السلمي، وأن نرفد توجهات وطننا التنموية من خلال تماسك جبهتنا الداخلية، ورفض كل ما يبذر أو يُبطن الشر لمجتمع من حقه أن يحيا حياة كريمة شأن بقية الشعوب.
تذكرة:
الأفكار القيّمة لا تموت أبدًا، ولا يمكن وأدها.
لا شكّ أنّ للنخبة المثقفة دورًا حيويًا في تشكيل وعي الإنسان، ولكن الأمم، بحكم طبيعتها المتأصلة، وجغرافيتها الموروثة، وتاريخها العريق، لا تُسلّم قيادها للأفكار بسهولة ويسر. تمتلك الأمم رصيدًا هائلاً من التقاليد الراسخة، والعادات المتوارثة، والتجارب الثرية، والرموز المقدسة، ممّا يدفعها إلى التمسك بثوابتها التي تراها جوهر هويتها، ويجعلها حذرةً من التغييرات المفاجئة.
لقد عانت البيئة العربية نصيبًا وافرًا من الأفكار التي أعاقت تقدمها المنشود، سواءً كانت أفكارًا تقليدية بالية تكبّل العقول، أو اتهامات بالتخوين تُطلق جزافًا على كل من يخالف الرأي. لطالما أصابت السهام الطائشة كيان الفكر العربي، وأدمته، ممّا اضطرّ المفكرين إلى الانزواء والابتعاد عن الأنظار، وإيداع أفكارهم القيّمة لدى تلاميذهم ومريديهم الأمناء. فالنقمة في بعض الأحيان تستهدف الشخص نفسه، لا النص الذي يقدّمه.
ولأنّ بعض الخطابات الاحتكارية خشيت من صعود خطاب الوعي والتنوير، فقد سعت جاهدةً إلى قمعه وإخماده في مهده، ولم تتقبّل فكرة مشاركة منصات التواصل مع فئات المجتمع المتنوعة، ولم تسمح بالتعبير عن الرأي المخالف والمختلف، بل اعتبرت مشروعها الخاص بمثابة "وصاية" على المجتمع، وعدّت وعظها وإرشادها بمثابة "الفكر" المطلق. وبما أنّ منهجية الأدلجة والتدجين تحمل في طياتها انتحارًا للمجتمع، فقد اعتمدوا أسلوب خلط الأوراق، والارتقاء إلى لغة الوعيد والتهديد، والاستقواء بالعنف والسلطة.
ممّا لا شكّ فيه أنّ بلادنا شهدت خلال السنوات العشر الأخيرة اعتماد منظومة قانونية متكاملة، وتشريعات حازمة، أسهمت في حفظ وضبط السِّلم المجتمعي، واختفى بذلك الصراع بين الأدوار الذي كانت تمثله تيارات مختلفة، وتلعبه توجهات تغذيها جهات داخلية وخارجية. بفضل فطنة قيادتنا الرشيدة، تجاوزنا نزعات ونزاعات كان يمكن أن تُفتّت وحدتنا الوطنية، وتحيلنا إلى مجتمعات متناحرة، على غرار دول لم يبقَ لها من مسمّى "دولة" إلا الاسم.
وعلى الرغم من أنّ التحولات المتسارعة تفرض علينا ضرورة تجاوز الماضي بكل ما فيه، إلا أنّ البعض ما زال أسيرًا لمرحلة كانت مليئة بالضجيج والصخب، وشهدت حدّة في الطروحات والمواقف، وصلت إلى حد المنازلة اللفظية واليدوية على شاشات التلفزيون، وفي المساجد، والفعاليات المختلفة، وصفحات الملاحق. وليس من المبالغة أن نقول: "دعوها فإنها مُربكة".
لن أعود إلى الوراء لأرثي أو أتباكى أو أندب حظّنا؛ لأنّ التراجع إلى الخلف يُعدّ ردّة ثقافية، وتخلّفًا عن مسيرة الإصلاحات التي تشهدها بلادنا. ومع ذلك، فإنّ المنصف لا يُنكر ولا يتجاهل الدور الذي لعبته الأيديولوجيات والأهواء في الأحداث التي شهدناها، حيث طغى وتفاقم التنازع وتقاطع المصالح، وتجلّت مظاهره في حشد المتعاطفين والأتباع بلا حصر، وراء رافعي ألوية الصراعات، والخوض مع الخائضين.
إنّ أيّ طرح موضوعي يستند إلى مراجعة عقلانية، مستنيرة برؤيتنا الوطنية، سيُقرّ بأنّ تلك الحقبة قد استهلكت الكثير من الوقت والجهد والمشاعر، وأحدثت فجوات عميقة بين أبناء الوطن السعودي الواحد، وخلقت حالة من العداء، تهدف إلى إلغاء أطراف لصالح طرف آخر، لا لشيء إلا للتشفّي، وكسب ولاء المجتمع لصفّ من يرى نفسه الأجدر بتسيّد المشهد وإدارته، ولعب دور البطولة.
اليوم تتجلى أمامنا صورة الدولة الوطنية والمجتمع المدني بوضوح وجلاء، ممّا أتاح مساحة من الحرية غير مسبوقة، جديرة بأن نستثمرها لصالح الأجيال القادمة، وذلك من خلال تعزيز معاني الانتماء إلى وطن أخرجنا من الظلمات إلى النور، وجدّد فينا الأمل الذي كاد أن يضمحل ويتلاشى. لا شكّ أنّ الولاء لقيادة ارتضاها المواطنون والمواطنات وبايعوها، هو جزء لا يتجزأ من مشروع بناء حضارة الوطن، فالاستقرار والتعايش يُحييان الأفكار ولا يئدانها، بشرط ألا تتجاوز الحدود.
من حكمة الفكر أن نضع في الاعتبار التخصص، فلا نتدخل فيما هو من صميم اختصاص الدولة، فهناك جانب تشريعي تضطلع به سماحة المفتي، وهيئة كبار العلماء، والديوان الملكي، ومجلس الوزراء، ومجلس الشورى. وليس من المصلحة التعمق فيما ترجع مرجعيته إلى هذه الجهات الاعتبارية، إلا ما يمكن قبوله من خلال القنوات التفاعلية المتاحة.
من العدل أن نستفيد من أخطاء الماضي، ولكن من الفضل أن نسمو على جراح الماضي واعتلالاته، وأن نوظف ما يكفله النظام من حق التعبير عن الآراء في إرساء قِيَم المواطنة الصالحة، والخير، والتعايش السلمي، وأن نرفد توجهات وطننا التنموية من خلال تماسك جبهتنا الداخلية، ورفض كل ما يبذر أو يُبطن الشر لمجتمع من حقه أن يحيا حياة كريمة شأن بقية الشعوب.
تذكرة:
الأفكار القيّمة لا تموت أبدًا، ولا يمكن وأدها.
